في ديسمبر من عام 2024 نجحت قوات إدارة العمليات العسكرية السورية المعارضة أخيرًا في دخول دمشق وإسقاط نظام الأسد بعد أكثر من خمسين عامًا من حكمه، وبعد نحو أربعة عشر عامًا من اندلاع الثورة السورية في عام 2011، وقد تباينت التعليقات على هذا الحدث بين فرح واستبشار، وتفاؤل، وقلق، وتعجب، وخوف، وتساؤل عن الداعمين والممولين والمستفيدين، ومحاولة توقع مآلات الحدث ومستقبل المنطقة من بعده.
غير أن سؤالًأ فارقًا لفتني وأحببت الإدلاء في بئره بدلوي هو قول القائل: «هل سقط الشر وانتهى وستصير البلاد جنة بسقوط أحد الطغاة أو حتى بسقوطهم جميعًا؟»
وأرى بدون شك أن لا، ذلك أن الشر في دنيانا أزلي أبدي، وُجد مع وجود النوع الإنساني، وسيبقى ببقائه، وهاك بعض حججي على ما أدعي، وهي نصيري في ما أروم من البيان.
فأقول: اعلم -وفقني الله وإياك إلى مراضيه- أن تدافع الحق والباطل مراد إلهي قديم، وأن السلامة من الضد مرام غير داخل في أصقاع الإمكان المتفاسحة.
«ليسَ يخلو المرءُ مِنْ ضدٍّ ولَو ... حاولَ العُزلةَ في راسِ الجبَلْ»
- ابن الوردي
إذ قبل قبض التراب وتشكيل الصلصال ونفخ الروح كان الخِصم الألد موجودًا معاديًا، فلما كان الخلق رفض السلم والموادعة وزمجر بصيحة الشر الخالدة: «أنا خير منه»، ولأن الشر لا يأتي إلا بالشر فإن عدونا -الذي سبق وجوده وجودنا- أعلن في مجمع الاستقبال الكوني الأول أن همته لن تفتر عن إضلال القادم الطيني الضعيف، وأن عزيمته النارية ماضية في إغوائه وذريته من بعده قاعدًا لهم بكل صراط، محتنكًا إياهم -أي: مستأصلًا مستوليًا- سادًا عليهم طرق الخير آتيًأ لهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم آمرًا إياهم بكل نقيصة صارفًا لهممهم عن كل فضيلة، وهذا البيان التفصيلي المطول المكرر في طول القرآن وعرضه لهذا التدافع الصراعي الأول لتنبيه وإيقاظ يمنع الغفلة ويطرد السَنة من عين الإنسان وفؤاده.
ثم يأتي الإعلان المُذكِّر «إن الشيطان لكم عدو» وقد كان في هذا القول غُنية للعقلاء عن إيراد أمر اللاحق له، غير أن ربنا -رحمة ربنا- عقّب على الخبر المؤكد بأداة التوكيد «إن» وأمرنا بمعاداة عدونا الخبيث فقال: «فاتخذوه عدوًا»، ثم علل لنا ذلك ببيان مغبة اتباعه وقبيح عاقبة أنصاره فقال: «إِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ» [فاطر: 6]
وأرجو ألا يضجر قارئي من ذكر هذه البدهيات؛ فإن أمرها وإن تكرر خطير، ونسيان الناس وغفلتهم عنها كثير، ولذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا العداء العام من الشيطان لكل البشر يتجدد مع ولادة كل مولود منهم فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد؛ فيستهل صارخًا من مس الشيطان غير مريم وابنها» ثم يفسر أبو هريرة -رضي الله عنه- استثناء مريم وابنها -عليهما الصلاة والسلام- بدعاء أمها الذي أخبرنا به ربنا في قوله: «وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ» [آل عمران: 36]
إن استمرار هذه المدافعة ما بقيت الدنيا لمقصود إلهي، وإنها لجبلة طبعت عليها، وفي انتهاء الصراع نهاية للحضارة، بل للحياة «وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ» [البقرة: 251] تفضل عليهم بأن يتدافعوا فيما بينهم؛ فيحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
وفساد الأرض بانتهاء التدافع يعني فسادها بعدم مدافعة الحق للباطل، كما يعني فسادها أيضًا بعدم مدافعة الباطل للحق!
أما الأول فظاهر، إذ انسحاب أهل الحق من المواجهة يحمل الباطل على الانتفاش والطغيان ومجاوزة كل حد، و تأخذ الأرض زخرفها وزينتها، ويظن أهلها أنهم قادرون عليها، وحينها يأتيها أمر الله بالهلاك ليلًا أو نهارًا فيجعلها حصيدًأ كأن لم تغن بالأمس، ويهلك الناس -طالحهم وصالحهم- لأن الخبث قد كثُر وتعطلت سنة التدافع التي أرادها الله في خلقه وأمرهم بها، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سألته أمنا عائشة -رضي الله عنها- قائلة: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثُر الخبث».
وأما الثاني «أعني: فساد الأرض بعدم مدافعة الباطل للحق» فعلته أيضًا تعطل ناموس الكون، إذ الدهر ليس جنائنيا، وانقلاب الدنيا عن طبيعتها الدنيَّة إلى الكمال والصلاح وانتشار الحق بدون مدافعة الباطل له يعني انتهاء الاختبار الإلهي للعباد، وذلكم الانتهاء إيذان بأوان الانتقال من دار البلاء إلى دار الجزاء، ومن ضيق الدنيا إلى سعة جنان الآخرة!
لو أراد الله الدنيا كاملة خالية عن الأكدار والغِيَّر لما أخرج آدم من الجنة، ولما خلق الشياطين وركب في النفوس حب الشهوات ثم أمرنا باجتنابها وتوعدنا بالعقاب على فعلها.
هذا ميدان آخر لهذا الصراع الأبدي الأزلي بين الحق والباطل هو ميدان الصراع الداخلي، أي بين دواعي الخير ودواعي الشر في قلب العبد الواحد، وكأن الإنسان يولد يوم يولد وبداخله مخلوقان متجاوران، يتصارعان أحيانًأ ويتسالمان حينًا، لكنهما أبدًا متضادان غير متحدين، أحدهما راغب في الخير والطاعة والاستقامة مُريد لها، والآخر كأنه شيطان مَريد مقبل على الإثم حريص على الشر!
الأول غذائه الأداب والفضائل، والثاني غذائه الأثام والرذائل، وبقدر ما يقدم لكل منهما من الغذاء تكون قوته، وبقدر قوته يكون طلبه لما يحتاج إليه من غذاء، وبقدر قوته أيضًا يكون إلحاحه وتكون شدته في طلب حاجاته، وبقدر قوته ثالثًا يكون صبره وبقاء حياته إذا تأخر إمداده بغذائه!
زمن جميل ما قرأت في وصف هذا الصراع الداخلي، وتغلب أحد هذين الخصمين على الآخر رواية «دكتور جيكل ومستر هايد» للكاتب روبرت ستيفنسون، وكأن بها تفسير روائي لقوله تعالى: «وهديناه النجدين»
أهذا أمر ممكن الحصول؟
كلا، ولا شك … فهذا جيل الصحابة -وهم خير جيل بنص الحديث الشريف- لم يخل من الذنوب والصراع والتشاحن. نعم كان هذا فيهم أقل منه في غيرهم لكنه كان، وهم بذلك لا يصدق فيهم وصف «جيل بلا ذنوب»، وإذا لم يصدق ذلك فيهم فهو عن صدقه في غيرهم أبعد!
لكن … لنفترض جدلًا أن هذا الاحتمال ممكن، وأنه وجد بالفعل في هذه الدنيا الناقصة هذا الجيل الكامل ماذا سيكون مآل الأمر حينها؟ والجواب في كلمة واحدة هو الهلاك.
جواب عجيب مثير للاعتراضات مفتقر للدليل، إذ سيقول قائل -وهو محق في قوله-: إن الخير لا يأتي إلا بالخير وهذا جزء من سؤال سائل يقول: «وهل يأتي الخير بالشر؟» فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا، وعليه فكيف أقول إن خلو جيل ما من الذنوب -وهو حال خير على ما في حصوله من استحالة- سيؤدي إلى هلاك هذا الجيل وفنائه واستبداله بجيل آخر يخلط العمل الصالح بالآخر السيء، ولا يتمحص للخير ولا للشر، نجد الجواب عن هذا الاعتراض في حديث نبوي افترض النبي صلى الله عليه وسلم فيه هذه الحالة بعيدة الإمكان، ثم بيّن ما يكون بعدها؛ فقال -وهو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم». [رواه مسلم]
إن هذا الجيل المتخيل المعصوم جيل شاذ، أي خارج عن النظام الذي خلق الله تعالى الدنيا لتسير عليه وهو التجاور الأزلي الأبدي بين الخير والشر، والصراع الدائم بينهما خارجيًا بين الجماعات البشرية المنحازة والممثلة لأي من الخيارين، وداخليًا بين الرغبات والشهوات المعبرة عن أي من المسارين والنجدين في نفس كل إنسان.
ومن هنا نعود إلى السؤال الذي استفتحنا به المقال وهو: هل بقاء الشر مقصود إلهي؟
فنقول: نعم … وذلك ليبقى البلاء والاختبار، ولتبقى الدنيا على ما فطرها الله عليه دار امتحان وعمل وجهاد وتدافع لا دار جزاء وراحة وخلود واستقرار.
ولو كان الله مريحًا أحدًا في هذه الدنيا لأراح الأنبياء، ولو كان النصر التام النهائي الكامل للخير على الشر ممكنًا لكان ذلك في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل الله العصافير تهزم الأفيال في يوم مولده الشريف، والذي جمع بعض الحصى بكفه من الأرض في إحدى غزواته وألقاها في جهة جيش عدوه قائلًا: «شاهت الوجوه»، فما بقى أحد منهم إلا أصابت حصاة وجهه، ولو أراد الله لجعل الحجارة من كفيه سجيلًا في وجوههم فكانوا بها عصفًأ مأكولًا، ولكن الله تعالى أراد غير ذلك، ليستمر الصراع، وإن شئت قلت: الجهاد، وإن شئت قلت: التدافع بين الحق والباطل، «لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَة» [الأنفال: 42]
ولله در شاعر الفتيان والفتوة إذ يقول مادحًا خير ممدوح صلى الله عليه وسلم:
«وَكُنْتَ تُنْصَرُ في الهَيْجَا بِكَفِّ حَصَىً
إذا رَمَيْتَ بِهِ جَمْعَ العِدَى هَمَدَا
لكنَّ رَبِّي أرادَ الحَرْبَ مُجْهِدَةً
وَالنَّفْسُ تَطْهُرُ إنْ عَوَّدْتَهَا الجُهُدَا
لو كانَ رَبِّي يُرِيحُ الأَنْبِياءَ لَمَا
كَانُوا لِمُتْعَبَةِ الدُّنْيا أُسَىً وَقُدَى
لو كانَ رَبِّي يُرِيحُ الأَنْبِياءَ دَعَا
لِنَفْسِهِ خَلْقَهُ وَاْسْتَقْرَبَ الأَمَدَا»
نعم.. لو كانت الراحة الكاملة لكانت الآخرة، ولكان يوم القيامة، ولكان خراب هذه الدار وكانت نهايتها، أما وهي قائمة فليبق الخير مجاورًا للشر ما بقيت، وليبق التدافع، وليبق الجهاد، لا على أمل الانتصار النهائي الكامل، ولا على أمل الفردوس الأرضي الخالي من الكبد، ولكن على أمل أن يستعملنا الله فيعذب المجرمين بأيدينا، ويخزيهم، وينصرنا عليهم، ويشفي صدور قوم مؤمنين، حتى إذا ما فنيت هذه الحياة الفانية وقامت القيامة، أو لنقل: حتى إذا ما مات الواحد منا وانتهت في الدنيا مهلته «ومن مات قامت قيامته» لقي الله باذلًا للوسع مجاهدًا قدر الطاقة غير مدخر جُهدًا، وإلى الله تُرجع الأمور.